سورة الإسراء - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


قلت: {أنْ نرسل}: مفعول {منعنا}، و{إلا أن كَذَّب}: فاعل. يقول الحق جلّ جلاله: وما صَرَفَنَا عن إرسال الآيات التي اقْتَرَحَتْهَا قريش بقولهم: اجعل لنا الصّفَا ذَهَبًا، إلا تكذيب الأولين بها، فهلكوا، وهم أمثالهم في الطبع، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوها، فيهلكوا أمثالهم، كما مضت به سنتُنا، وقد قضينا في أزلنا ألا نستأصلهم؛ لأن فيهم من يُؤمن، أو يلد من يؤمن.
ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال: {وآتينا ثمودَ الناقةَ} بسبب سؤالهم، {مُبصرةً}؛ بينة ذات إبصار، أو بصائر واضحة الدلالة، يُدركها كلُّ من يبصرها. {فظلموا بها}؛ فكفروا بها، أو: فظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فهلكوا، {وما نُرسل بالآياتِ} المقترحة {إِلا تخويفًا} من نزول العذاب المستأصِلِ، فإن لم يخافوا نزل بهم، أو: وما نرسل بالآيات غير المقترحة، كالمعجزات وآيات القرآن، إلا تخويفًا بعذاب الآخرة؛ فإن أمر من بعث إليهم مؤخر إلى يوم القيامة. قاله البيضاوي.
قال في الحاشية: ومقتضى حديث الكسوف، وقوله فيه: ذلك يُخوف بهما عبادة: أن التخويف لا يختص بالخوارق، بل يعم غيرها، مما هو معتاد نفيه، ويأتي غِبا. وفي الوجيز: (بالآيات) أي: العبر والدلالات. وفي الورتجبي: الآيات هي: الشباب والكهولة والشيبة، وتقلب الأحوال بك، لعلك تعتبر بحال، أو تتعظ بوقت. اهـ.
الإشارة: إمساك الكرامات عن المريد السائر أو الولي: رحمة واعتناء به، فلعله؛ حين تظهر له، يقف معها ويستحسن حاله، أو يزكي نفسه ويرفع عنها عصا التأديب، فيقف عن السير، ويُحرم الوصول إلى غاية الكمال، وفي الحكم: (ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها، إلاّ نادته هواتف الحقيقة: الذي تطلب أمامك). وقال الششتري رضي الله عنه:
ومهما ترى كلَّ المراتِبِ تجتلي *** عليْكَ فحُلْ عنها فعَن مِثْلها حُلْنا
وقُلْ ليْس لي في غَيْر ذاتِكَ مَطْلبٌ *** فلا صورةٌ تُجْلى ولا طُرْفَةٌ تُجْنى
ولما نزّه تعالى نفسه في أول السورة عن الجهة، التي تُوهمها قضيةُ الإسراء، صَرَّحَ هنا بأنه محيط بكل مكان وزمان، لا يختص بمكان دون مكان.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذْ قلنا لك} فيما أوحينا إليك {إِنَّ ربك أحَاطَ بالناس} علماً وقدرة، وأسراراً وأنواراً، كما يليق بجلاله وتجليه، فلا يختص بمكان ولا زمان، بل هو مظهر الزمان والمكان، وقد كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} في قضية الإسراء، قال ابن عباس: هي رؤيا عين حيث رأى أنوار جبروته في أعلى عليين، وشاهد أسرار ذاته أريناك ذلك في ذلك المكان {إلا فتنةً للناس}؛ اختباراً لهم، من يصدق بذلك ولا يكيف، ومن يجحده من الكفرة. ومن يقف مع ظاهره، فيقع في التجسيم والتحييز، ومن تنهضه السابقة إلى التعشق؛ فيجاهد نفسه حتى تعرج روحه إلى عالم الملكوت، فتكاشف بإحاطة أسرار الذات بكل شيء.
وإنما خص الحق تعالى إحاطته بالناس، مع أنه محيط بكل شيء، كما في الآية الأخرى: {أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} [فُصِّلَت: 54]؛ لأنهم المقصودون بالذات من هذا العالم، وما خلق إلا لأجلهم. فاكتفى بالإحاطة بهم عن إحاطته بكل شيء.
ثم قال تعالى: {والشجرة الملعونة في القرآن} وهي: شجرة الزقوم، أي: ما جعلناها إلا فتنة للناس. وذلك أن قريشاً لما سمعوا أن في جهنم شجرة الزقوم، سخروا من ذلك، فافتتنوا بها، حيث أنكروها، وكفروا بالقرآن، وقالوا: كيف تكون شجرة في النار، والنار تحرق الشجر؟! وقفوا مع الإلف والعادة، ولم ينفذوا إلى عموم تعلق القدرة. ومن قدر على حفظ وبر السَّمَنْدَل منها، وهو يمشي فيها، قدر على أن يخلق في النار شجرة، ولم تحرقها. وقال أبو جهل: ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد. فإن قيل: أين لُعِنت شجرة الزقوم في القرآن؟ فالجواب: أن المراد لعنة آكلها، وقيل: إن اللعنة هنا بمعنى الإبعاد، وهي في أصل الجحيم.
قال تعالى: {ونُخوِّفهم} بأنواع التخويف، أو بالزقوم، {فما يزيدُهُم إِلا طغيانًا كبيرًا}؛ عنوًا مجاوزاً للحد.
الإشارة: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. فإذا انمحت الأكوان ثبتت وحدة المكون. «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه»، من قامت به الأشياء، وهو وجودها ونور ذاتها، ومحيط بها، كيف تحصره، أو تحيزه، أو تحول بينه وبين موجوداته؟ قيل لسيدنا علي- كرم الله وجهه-: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين كان ربنا قبل خلق الأشياء؟ فتغير وجهه، وسكت، ثم قال: قولكم: أين؟ يقتضي المكان، وكان الله ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان. اهـ.
وقال الشيخ الشاذلي: (قيل لي: يا عليّ؛ بي قُلْ، وعليّ دُل، وأنا الكل). وفي الحديث: «لاَ تَسُبُّوا الدَهْرَ، فَإنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ، بِيَده الليْلُ والنَّهَار»، ولا يفهم هذا على التحقيق إلا أهل الذوق، بصحبة أهل الذوق. وإلا فسلِّم تسلم، واعتقد التنزيه وبطلان التشبيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.


قلت: {طينًاً}: منصوب على إسقاط الخافض، أو: حال من الراجع إلى الموصول، و{أرأيتك}: الكاف للخطاب، لا موضع لها. وتقدم الكلام عليه في سورة الأنعام. و{هذا}: مفعول أرأيت، و{جزاء}: مصدر، والعامل فيه: {جزاؤكم}، فإنَّ المصدر ينصب بمثله أو فعله أو وصفه، وقيل: حال موطئة لقوله: {موفورًا}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إِذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليسَ} امتنع، و{قال أأسجدُ لمن خلقتَ طينًا} أي: من طين؛ فهو أصله من الطين، وأنا أصلي من النار، فكيف أسجد له وأنا خير منه؟! ثم {قال} إبليس: {أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليَّ} أي: أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ؛ بأمري بالسجود له، لِمَ كرمتَه عليّ؟ {لئن أخرتنِ} أي: والله لئن أخرتنِ {إِلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنّ}؛ لأستأصلن؛ من احتنكت السَّنةُ أموالَهم؛ أي: استأصلتها. أي: لأهلكن {ذريتَه}؛ بالإغواء والإضلال، {إِلا قليلاً}؛ أو: لأميلنهم وأَقُودَنَّهُمْ، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد. أي: لأقودنهم إلى عصيانك، إلا قليلاً، فلا أقدر أن أقاوم شكيمتهم؛ لمَا سبق لهم من العناية.
قال ابن عطية: وحَكَمَ إبليس على ذرية آدم بهذا الحكم؛ من حيث رأى الخِلْقَةَ مجوفةً مختلفةَ الأجزاءِ، وما اقترن بها من الشهوات والعوارض؛ كالغضب ونحوه، ثم استثنى القليل؛ لعلمه أنه لا بد أن يكون في ذريته من يصلب في طاعة الله. اهـ. قلت: إنما يحتاج إلى هذا: من وقف مع ظاهر الحكمة في عالم الحس، وأما من نفذ إلى شهود القدرة في عالم المعاني: فلا.
{قال} تعالى: {اذهبْ}؛ امض لما قصدته، وهو طرد وتخلية لما بينه وبين ما سولت له نفسه. {فمن تبعك منهم فإِنَّ جهنم جزاؤكم}؛ التفت إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: جزاؤهم، بضمير الغيبة؛ ليرجع إلى {من تبعك}، لكنه غلب المخاطب؛ ليدخل إبليس معهم، فتُجازون على ما فعلتم {جزاء موفورًا}؛ وافرًا مكملاً، لا نقص فيه. {واستفزز}؛ استخفف، أو اخدع {مَن استطعتَ منهم} أن تستفز {بصوتك}؛ بدعائك إلى الفساد، {وأَجْلِبْ عليهم} أي: صِحْ عليهم، من الجلبة، وهي: الصياح، {بخَيْلكَ ورَجِلكَ}؛ أي: بأعوانك؛ من راكب وراجل، قيل: هو مجاز، أي: افعل بهم جهدك. وقيل: إن له من الشياطين خيلاً ورجالاً. وقيل: المراد: بيان الراكبين في طلب المعاصي، والماشين إليها بأرجلهم. {وشارِكْهمْ في الأموال}؛ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام، والتصرف فيها على ما لا ينبغي، كإنفاقها في المعاصي، {والأولادِ}؛ بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب الحرام، كالزنى وشبهه من فساد الأنكحة، وكتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وعبد العُزّى.
وقال في الإحياء: قال يونس بن زيد: بلغنا أنه يُولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن، ثم ينشأون معهم.
قال ابن عطية: وما أدخله النّقَّاشُ؛ من وطء الجن، وأنه يحبل المرأة من الإنس، فضعيف كله. اهـ. قال في الحاشية: وضَعْفُهُ ظاهر، والآية مشيرة لرده؛ لأنها إنما أثبتت المشاركة في الولد، لا في الإيلاء، فإنه لم يرد، ولو قيل به لكان ذريعة لفساد كبير، ولكان شبهة يُدْرَأُ بها الحد، ولا قائل بذلك. وانظر الثعالبي الجزائري؛ فقد ذكر حكاية في المشاركة في الوطء عمن اتفق له ذلك، فالله أعلم. وأما عكس ذلك؛ إيلاء الإنسي الجنية، فأمر لا يحيله العقل، وقد جاء الخبر به في أمر بلقيس. قاله المحشي الفاسي.
{وعِدْهُمْ} بأن لا بعث ولا حساب، أو المواعد الباطلة؛ كشافعة الآلهة. والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة، وطول الأمل، {وما يعدُهم الشيطانُ إِلا غرورًا} وباطلاً. والغرور: تزيين الخطأ بما يُوهم أنه صواب. قاله البيضاوي.
الإشارة: ينبغي لك أيها الإنسان أن تكون مضادًا للشيطان، فإذا امتنع من الخضوع لآدم فاخضع أنت لأولاد آدم؛ بالتواضع واللين، وإذا كان هو مجتهدًا في إغواء بني آدم بما يقدر عليه، فاجتهد أنت في نصحهم وإرشادهم، وتعليمهم ووعظهم وتذكيرهم، بقدر ما يمكنك، واستعمل السير إليهم بخيلك ورجلك، حتى تنقذهم من غروره وكيده. وإذا كان هو يدلهم على الشرك الجلي والخفي، في أموالهم وأولادهم، فدُلَّهم أنت على التوحيد، والإخلاص، في اعتقادهم وأعمالهم وأموالهم. وإذا كان يعدهم بالمواعد الكاذبة، فعدهم أنت بالمواعد الصادقة؛ كحسن الظن بالله، إن صحبه العمل بما يرضيه. فإن فعلت هذا كنت من عباد الله الذين ليس له عليهم سلطان.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10